القصة أداة سهلة الفهم ، كما أنها تحظى بالقبول من العامة والخاصة على السواء، ومن ثم فقد لازمت الإنسان منذ وجوده ، أن الإنسان يولع بالقصص ويميل بفطرته عليها ، وإذا ما قص عليه جزء من قصة حرص على متابعة أحداثها ليعرف مدى ما وصلت إليه , فقد زخرت السنة بالكثير من النصوص ذات الطابع القصصي لتشد الناس نحو مبادئ الدين ، وتعاليمه السامية ، متعاونة في هذا مع وسائل الدعوة الأخرى في إيجاد الفرد الصالح والمجتمع السليم .
وحوارنا مع الدكتور ( فيصل بن سعود الحليبي ) خير معين لمعرفة أثر القصص في الدعوة إلى الله .
س1/ نريد أن نستهل حوارنا معك ببطاقة تعريفية لشخصك الكريم ؟
أخوكم : فيصل بن سعود بن عبد العزيز الحليبي، أستاذ أصول الفقه المساعد بكلية الشريعة والدراسات الإسلامية في الأحساء، ونائب مدير مركز التنمية الأسرية بالأحساء، والمستشار بموقع المستشار والإسلام اليوم .
س2/ اهتم القرآن والسنة بالقصص كأسلوب دعوي نريد أن تحدثنا عن ذلك ؟
زخر القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة بعدد كبير من القصص، التي تتركز على دعوة المطلع عليها بصرًا وسمعًا، خطاب فيه عقله وقلبه في آن واحد، حتى تجعله يستخدم كل ما آتاه الله تعالى من أدوات الفهم والتأمل، بل إن القصص المستمد من الوحي لا تكتفي النفوس بقراءته مرة واحدة، بل إنها تشتاق إليه كل ما قرأته، وتعاود الكرة تلو الكرة في التفكر فيه، وكل مرة تجد فيه من العبر والعظات إضافة على ما وجدته في مرات سابقة، وربما تأثرت في مواقع منه لم تتأثر به في مواقع سابقة.
والقصص الرباني أسلوب دعوي يختصر الكثير من المسافات التي ربما تقطعها الكلمات والمواعظ، حيث تندمج الأفكار الإيجابية ضمن سياق القصة، فيتلقاها المتلقي بيسر وسهولة ، وتستقر في خاطره أيما استقرار، وسرعان ما تترك أثرها على سلوكه يشعر بها أحيانًا وربما لا يشعر .
س3/ برأيك هل يقتصر الداعية على الأسلوب القصصي بدعوته أم يجعله ضمن مجموعة أساليب ؟
إن خير منهج للدعوة هو منهج النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو منهج لم يقتصر على نوع واحد من أساليب الدعوة الكثيرة، بل إنه عليه الصلاة والسلام لم يدخر أسلوبًا وجد فيه الخير ونشر الفضيلة إلا وسلكه، لا يحقر من ذلك شيئًا، فالابتسامة الصادقة، والنظرة الحانية، والكلمة العذبة، والخطبة المؤثرة، والمساعدة الفعلية، والسؤال، والتشجيع والتعزيز ، والقصة، والأمثال ، والدعاء والتضرع وغير ذلك كلها من المنهج الدعوي النبوي .
من هنا أجد أن من القصور أن يقتصر الداعية على الأسلوب القصصي في الدعوة مع كل فئات المجتمع، ولو كانوا صغارًا أو عوامًا، حتى إنه من المحزن أن تلتصق صفة ( القصّاص ) ببعض الدعاة من كثرة ما يحكون من القصص ، واسمحوا لي أن أقول : إنه ربما كان القاص محل الريبة من كثرة ما يحكي من القصص، ولا ريب أن ما يدعوه إلى ذلك ما يجده من اجتذاب الناس إليه في قصصه لما جبلت عليه النفوس من حب القصص ، وهذا لا يعني أننا نقلل من شأن القصة في الدعوة؛ بل هي منهج كما قلت إلهي ، لكن ينبغي أن نأخذ هذا المنهج كله دون بعض ميزاته، فنراوح بين التوجيه والقصص، وغير ذلك من أساليب الدعوة ، حتى لا يتعود الناس على ذلك، بحيث لو لم يكن هناك قصص في محاضراتنا أو خطبنا لم يلتفتوا إلى الداعية .
وابن الجوزي ـ رحمه الله ـ لا يرى صد الناس الشغوفين بالوعظ الممزوج بالقصص ، ولكنه يحمل القاص مسؤولية ذلك فيقول : (( اليوم كثر الإعراض عن العلم ، فأنفع ما للعامي مجلس الوعظ ؛ يرده عن ذنب ، ويحركه إلى توبة ، وإنما الخلل في القاص ، فليتق الله عز وجل )) .
س4/ الناشئة كفئة حساسة في المجتمع لا بد من تنويع أساليب الدعوة أثناء مخاطبتهم , حدثنا عن تأثير القصة في التعامل مع فئة الناشئة ؟
للقصة حينما تتوفر فيها عدد من المرتكزات تأثير عجيب، أما أهم هذه المرتكزات فهي :
1/ أن يتحرّى الواعظ الصدق فيما ينقله من قصص وأخبار ؛ فإن الواقعية والمعقولية في ذكر القصص لعامة الناس طريقان سريعان للتقبل والعمل ، ليس على الأمد القريب فحسب؛ بل حتى البعيد أيضًا ، وانظر إلى وصف الله تعالى قصصه في القرآن بقوله : { إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ } سورة آل عمران ،متأملاً أثرها الخالد إلى يوم القيامة ، وعليه : فمن الخطأ أن ينظر الواعظ ما سيحصل بين يديه من التأثر بما لم يثق فيه من القصص المؤثرة ، مقابل أن يهمل مصداقيته المستقبلية في وعظه .
وليس هذا فحسب ؛ بل إن الواعظ حتى لو تأكد من صدق قصته أو خبره ، لكنه إن رأى أن فيها من الغرائب ما لا يصدقه عامة الناس ، فالأولى ألا يحدث بها حتى لا تنعدم ثقة الناس فيه وفي علمه ، ولقد كان سلف الأمة يفرون من غرائب الأخبار ، ومن ذلك قول أيوب السختياني ـ رحمه الله ـ : { إِنَّمَا نَفِرُّ أَوْ نَفْرَقُ مِنْ تِلْكَ الْغَرَائِبِ } كما أورد ذلك عنه مسلم في صحيحه ؛ بل كانوا يقرنونها بالمناكير من الأحاديث ، ومن ذلك قول الترمذي رحمه الله : ( زِيَادُ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ كَثِيرُ الْغَرَائِبِ وَالْمَنَاكِيرِ ) .
2/ الحوار، ويشمل الحوار الشفهي أو الحوار النفسي الذي يشف ما في نفس بعض أطراف القصة بدون ما يتفوه به ، ليصف في بعض المشاعر والخلجات، وهذا من أكثر ما يؤثر في النفس.
3/ التركيز على المواطن المؤثرة، وذكر بعض التفاصيل التي تكمل المشهد في ذهن المتلقي من دون إيراد الجزئيات التي ربنا ندّت بعقل المستمع عن المطلوب .
4/ جودة البدء ، وإحكام النهاية، فإن في البداية تشويق وجذب، وفي النهاية عنصر المفاجأة، وعنصر الاتعاظ ، من هنا قال الله تعالى في آخر سورة يوسف : { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } .
5/ أن يراوح الداعية بين قصص السابقين والمعاصرين، فإنه لا يشك أحدنا أن حكايات السلف ـ رحمهم الله ـ في زهدهم وورعهم وتعاملهم مع الله تعالى وخلْقِه فيها من كنوز الوعظ والتذكير ما تطرب له القلوب ، وتهتز لها المشاعر ، ولكن لما كان في المجتمع فئة تستبعد الوصول إلى حالهم ، كان على الواعظ أن يذكر صفحات مضيئة من أحوال الأتقياء والعاملين المخلصين في هذا الزمان ، حتى يقْرُبَ المثال ، ويُتصور التطبيق .
6/ أن يوثق الداعية قصته بذكر مرجعها، أو سندها ، ولو كانت من قصص المعاصرين، لتزيد ثقة الناس فيه .
إذا توفرت هذه المرتكزات في قصصنا ، ستترك بإذن الله تعالى أثرًا كبيرًا في نفوس الناس ، فكم قصة غير حياة إنسان ، وكم قصة تركت من الأثر ما لم تتركه كثير من المحاضرات والكتب .
س5/ التنوع بالأساليب لدى الدعاة , هل يعتبر أسلوب فطري أم يجب على الداعية التعلم على أساليب الدعوة للتجديد ولجذب الاستماع له ؟
إن من أبرز مشكلاتنا الدعوية هو الاعتماد على مبدأ ( الخبرة ) أو المهارات ( الفطرية ) ، وهذا يؤكده أحياناً التكاسل عن المزيد من التعلم، والله تعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يطلبه المزيد من العلم فقال : { وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا ﴿114﴾} سورة طه ، وما يزال الله تعالى يعلم نبيه صلى الله عليه وسلم كيف يدير حياته الدعوية بنجاح ليقول له : { عَبَسَ وَتَوَلَّى ﴿1﴾ أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى ﴿2﴾ ... } الآيات سورة عَبَسَ .
والسؤال : لماذا لا يحاول الداعية أن يزيد على خبرته ومهاراته خبرات ومهارات أخرى يكتسبها من غيره، فالعاقل من أضاف إلى عقله عقول الآخرين ، فالبرامج التدريبية والكتب المختصة ، والاستماع إلى من هو أخبر منه في طريق الدعوة والاستفادة منه ، كلها وسائل لتطوير قدرات الداعية في طريق الدعوة .